العلم كالماء والهواء كما يخبرنا عميد الأدب العربي طه حسين؛ لهذا لا يمكن تصور الحياة دونما تعلم مستمر، ولكن بعد تفشي وباء كورونا وما فرضه من تباعد اجتماعي؛ أصبح “التعلم عن بعد” بديلا للذهاب للمدارس والجامعات والمراكز المختلفة؛ وبات الجميع يتساءل عما يعنيه هذا النمط من التعلم، وهل سنكتفي بحصان خشبي بديلًا لذلك الذي كنا نرتاد به الآفاق؛ أم سنخوض تجربة تعلم ثرية ومختلفة عبر الواقع الإليكتروني.
ولمزيد من فهم التعلم عن بعد فقد عرفّت منظمة اليونسكو التعلم عن بعد Distance Education بأنه “عملية تربوية يتم فيها كل أو أغلب التدريس من شخص بعيد في المكان و الزمان عن المتعلم، مع التأكيد على أن اغلب الاتصالات بين المعلمين والمتعلمين تتم من خلال وسيط معين سواء كان إلكترونياً أو مطبوعاً” .
ونجد أيضاً تعريف الجمعية الأمريكية للتعليم عن بعد بأنه “عملية اكتساب المعارف والمهارات بواساطة وسيط لنقل التعليم والمعلومات متضمن في ذلك جميع أنواع التكنولوجيا والأشكال المختلفة للتعلم عن بعد”.
وغالبا ما يتم تسهيل بيئة التّعلّم عبر الإنترنت من خلال أنظمة إدارة التّعلم Learning management system.
وقد يكون التعليم متزامنا فيتفاعل المتعلمون مع المعلم في نفس الوقت ويحصلون على استجابات فورية، أو يكون غير متزامن ويتيح للطالب التفاعل مع دروسه في أي وقت ودونما رد فعل فوري.
هناك العديد من المصطلحات المختلفة للتعليم عن بعد فهو يعرف بالتعليم بالمراسلة ،والتعليم المفتوح ، والتعليم الموزع ، وهناك تعبيرات أخرى، كالدراسة المنزلية ،والدراسة المستقلة ، والدراسة من الخارج ،وأيضا تنوعت المصطلحات فى اللغة الإنجليزية للتعليم عن بعد ومنها:
Distance Learning, Distributed Learning, Remote Learning, Distance Education.
عناصر التعلم عن بعد
تفرق خبيرة التعليم د.كاسيا راي في كتاب: “التعلم عن بعد في الوقت المناسب”؛ بين هذا النمط من التعلم الإليكتروني، وبين نظيره الافتراضي والذي يتم من خلاله اعتماد منهج دراسي إليكتروني وبنية مخصصة لدعم الطلاب المسجلين في المدرسة؛ في حين يستخدم التعليم عن بعد التقنيات الإلكترونية للوصول إلى المناهج التعليمية خارج الفصول الدراسية التقليدية وبما يسمح بوجود مساحة بين المعلم والطالب؛ فكلاهما يتواصل من المنزل، وعادة ما يحدث ذلك أوقات الطواريء مثل حالة تفشي وباء كوفيد19 التي نعيشها.
وتشمل أهم عناصر هذا النوع من التعلم الوقت والاتصالات والتكنولوجيا وتصميم الدروس؛ وبناء عليه نستطيع الحكم على مدى نجاح التجربة، وتنصح الخبيرة في كتابها بما يلي:
الوقت:
يجب أن يلائم توقعات المعلم والطالب، ويتضمن التفكير في عدد الساعات ومتى يمكننا البدء والتوقف وتقسيم الأوقات، في بعض الأحيان، سيرغب المعلمون في التواصل في الوقت الفعلي، أو بشكل متزامن، مع طالب أو مجموعات من الطلاب. يمكن القيام بهذه الأنواع من الاتصالات من خلال التداول بالفيديو أو من خلال الدردشة أو عن طريق الهاتف. يمكن استخدام تطبيقات مثل FaceTime أو Google Hangouts أو Skype أو Microsoft Teams أو Zoom أو What’s App لتوفير هذه الاتصالات المتزامنة.
يمكن أيضًا استخدام مفهوم “ساعة المكتب” بحيث يمكن للعديد من الطلاب التواصل في جلسات الدردشة في وقت واحد ، مما يتيح المزيد من نقاط اللمس بين المعلم والطلاب.
الاتصالات:
يجب أن يعرف الطلاب بالضبط كيف ومتى يتوقع منه التواصل مع المعلم. هل البريد الإلكتروني مفضل على الدردشة عبر الإنترنت؟ هل يجب أن تكون جميع الاتصالات ضمن أداة التكنولوجيا المعينة؟ ماذا لو كانت هذه الأداة لا تعمل؟ ما هي الخطة الاحتياطية للاتصال؟ وينبغي الإجابة على كل سؤال من هذه الأسئلة في وثيقة مقدمة تحدد جميع التوقعات. ويجب التفكير في الطرق المثالية للرد على استفسارات الطلاب على مدار الساعة.
التكنولوجيا :
يمكن أن تختلف التكنولوجيا في بيئات التعلم عن بعد المرتجلة. إذا سمحت المدارس للطلاب بأخذ الأجهزة المنزلية ، فيجب أن يكون الطلاب مستعدين للتعلم.
تحتاج المناطق التي لا تشارك عادة في التعلم عن بعد أو التعلم الافتراضي في التقويمات التقليدية الخاصة بها إلى توفير طرق بديلة للطلاب لتلقي الواجبات وإعادتها؛ وقد كان إرسال حزم المواد ورقيا إلى المنزل واستلامها مغلفة هو أحد السبل لمواصلة الدراسة أثناء حالة الأزمات.
وتحتاج المدارس إلى تقديم معلومات واضحة جداعن كيفية الوصول إلى أي منصة على الإنترنت أثناء التعلم عن بعد، لا سيما إذا لم يعتد الطلاب والآباء والمعلمين على استخدام هذه الأدوات على أساس منتظم. كما يجب تقديم الدعم التقني في جميع أنحاء المقاطعة وألا يكون مسؤولية المعلم، الذي سيكون لديه ما يكفي لمواكبة بيئة التعلم عن بعد. يجب أن تكون المعلومات الواضحة التي تصف خطوات استكشاف الأخطاء وإصلاحها ومعلومات الاتصال للحصول على دعم فني إضافي متاحة بسهولة للجميع.
تصميم الدرس:
تصميم الدروس عن بعد هو أكثر تفصيلا قليلا من خلق الدرس الذي سيتم شرحه داخل الفصل، فالمحتوى يجب أن يكون واضحا بدرجة كبيرة، وأن يفترض المعلم أنه سيكون هناك نقص في الفهم وبالتالي إضافة شروحات تفصيلية ضمن بنية الدرس.
وهناك أهمية قصوى لوضع الأنشطة والتدريبات والتقييم في بنية الدرس، وتلقي ردود الفعل من الطلاب جميعا لنجاح أي درس عن بعد، مع تقليص وقت الدرس فإذا كان الشائع 45 دقيقة داخل الفصل، فسوف يكون تقريبا 20 دقيقة عن بعد؛ بحسب الكتاب نفسه.
مباديء التعلم عن بعد:
تستند عملية التعلم عن بعد إلى عدد من المباديء وأهمها (بحسب سوزان المهدي):
- عملية فردية: أي أن العملية التعليمية يجب أن تصمم بطريقة توافق إستعدادات الفرد وقدراته وميوله واتجاهاته وسرعته في التعلم .
- ذاتية: التعلم برغبة ذاتية من المتعلم ودافع منه.
- مستمرة: أي أن التعليم عملية مستمرة مدى الحياة فقد يرغب الإنسان في تنمية نفسه مهنياً أو علمياً أو ثقافياً ،ولا بد من إعطائه الفرصة لكي يحقق ذلك، في أي وقت وأي مكان.
4- مستقلة: أي أن يتعلم المتعلم بمفرده معتمداً على ذاته في أغلب الأحيان.
5- ديمقراطية: بمعنى أن التعليم حق لكل فرد من أفراد المجتمع بغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ودينه وظروفه وعمره.
استراتيجية التعلم
يؤكد الخبراء أن التعلم يتأثر بالمحتوى والاستراتيجية التعليمية في المواد التعليمية أكثر من نوع التكنولوجيا المستخدمة لتقديم التعليم؛ حسبما ينقل تيري أندرسن في الفصل الأول من كتابه الشهير “التعلم الإليكتروني” نظريات عدة تشير للأمر نفسه من ذلك مقولة “كوزما” أن الكمبيوتر ليس في حد ذاته هو الذي يجعل الطلاب يتعلمون، ولكن تصميم نماذج الحياة الحقيقية والمحاكاة ، وتفاعل الطلاب مع تلك النماذج؛ فالكمبيوتر هو مجرد السيارة التي توفر القدرة على تسليم التعليمات للمتعلمين.
وتقترح “سيمنز” إشراك المتعلمين في البحث عن المعلومات لبناء قاعدة معرفية صحيحة ومثالية في عالم شبكي؛ فالمعلومات لا يجوز استقاؤها من مصدر واحد، والتصديق عليها، بل تجميعها من جهات مختلفة وهو أسلوب يجب اعتماده بقوة في التعلم عن بعد.
ومن جهة علم النفس المعرفي، وبحسب المصدر نفسه؛ سنرى أن التعلم عملية تنطوي على الذاكرة والتفكير والتجريد والتحفيز ويستخدم المتعلم أنواعًا مختلفة من الذكاء والذاكرة أثناء التعلم، ويتم تلقي الأحاسيس من خلال الحواس أيضا، وإذا أردت تعليما مبدعا عن بعد، يجب أن تعمل على إيقاظ كل تلك الحواس والذكاءات في المتعلم.
وبشكل أدق فإن المدة في ذاكرة العمل هي تقريبا 20 ثانية، وإذا لم تكن المعلومات مؤيدة للإقلاع بكفاءة، لا يتم نقلها إلى ذاكرة طويلة الأجل للتخزين ومن ثم وضعها في مقارنة مع النماذج المعرفية السابقة لفهمها، وهذه الأمور وغيرها تعطينا خلفية عن قيمة التأني في تجهيز المحتوى التعليمي المقدم عن بعد.
ويشير كتاب أندرسن لأهمية استخدام مجموعة متنوعة من الأنشطة التعليمية لاستيعاب أساليب التعلم المختلفة؛ كما تشمل الأنشطة التلخيص لما سبق واستعراض خريطة المفاهيم المطلوبة وغيرها.
وينصحك الخبراء بخلق بيئة التزام داخل مجموعة التعلم عن بعد، وفرض قواعد انتماء، لأن ذلك يعزز عملية التعلم ويساعدها، بالإضافة لخلق التحدي باستمرار لأكبر عدد من المشاركين، مع مكافاة الأشخاص أصحاب التقييم الأفضل، بألقاب وشهادات وما شابه.
فرصة لا غنى عنها
في كتابه يشير أندرسن إلى أن التعليم عن بعد سيظل هو الترياق الأكثر أملًا لأخطاء الجشع والجهل والعدوان الذي يهدد عالمنا.
لقد تحول التعلم عن بعد لفرصة لا غنى عنها ليس للطلاب فقط لاكتساب المعارف المختلفة بمرونة وفاعلية أكبر وكلفة أقل او حتى الحصول على وظائف والترقي في العمل، ولكن أيضا لأصحاب الأعمال ولاقتصاد الدول ضمن ما يعرف بـ”اقتصاد المعرفة الجديد” وقد اندرجت كافة المؤسسات فعليا في سباق محموم لحجز مكانها الصحيح على خريطة البرامج والمناهج المقدمة “عن بعد”.
ونظرًا لشيوع هذا النمط من التعلم حاليا فقد تحول تدريجيا دور المعلم لما يشبه المايسترو لعصف الأفكار في موضوع المحاضرة، وليس الملقن للمنهج الثابت؛ حيث يقوم المتدربون والطلاب بتبادل ما قرأوه في إطار برامج وخطة محكمة للاستفادة؛ وبالتالي فقد تطورت المعايير التربوية والتي تشمل كذلك معايير التقييم.
كما أن هذا النمط قد شجع ما يُعرف بـ”ديمقراطية المعرفة” وإتاحتها للفئات المهمشة والمحرومة أو ذوي الاحتياجات الخاصة.
لقد تحولت غرف MOOCs ومحاضراتها المصورة بالفيديو للبديل العملي لكثير من المحاضرات وجهًا لوجه، خاصة وأنها نظام يتيح حرية التعلم في الوقت الملائم للطالب وهو ما يعرف بالتعلم “غير المتزامن” ويتوقع (كابلان وهيلين خبيرا التعليم في مقال اكاديمي عن التعلم عن بعد منشور بأرشيف “واي باك ماشين”) دمج تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الذي ينشئه المستخدمون بشكل عام في الفصول غير المتصلة بالإنترنت أيضًا. وأن تتحول تطبيقات التدوين المصغر مثل تويتر لتوسيع المناقشات خارج الفصول الدراسية والسماح للطلاب بتبادل أو تغريد ردود أفعالهم على قراءة المهام.
وهناك العديد من المبررات التي تدفع للتعلم عن بعد، وهو الذي أصبح ضرورة وليس ترفا بعد تفشي فيروس كورونا المستجد في عالمنا حاليا، وبحسب الدكتور صلاح الشرهان بدراسته المقدمة حول “التعليم المفتوح والتعليم عن بعد في الوطن العربي” فإن أهم تلك المبررات هي:
*التوجهات العالمية بتبني التعليم المفتوح بما يشكل دافعا لاقتصاديا الدول.
* مبررات اجتماعية وثقافية (توفير فرصة التعلم لمن لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بالجامعات، ومن لا يتمكنون من مغادرة منزلهم أو ترك اعمالهم، وامكانية الجمع بين التحصيل الدراسي والعمل.
*مبررات بشرية وجغرافية: استيعاب أعداد كبيرة تفوق قدرة الجامعات التقليدية من أهم ميزات التعلم عن بعد، مع قدرته على صقل خبرات المتدربين وتقديمهم لفرص أفضل بسوق العمل.
*مبررات إنسانية ونفسية: يجعل التعليم عن بعد حق التعلم واحدا ومتاحا امام الجميع، كما أنه يعد أقل تكلفة من نظيره التقليدي، وأكثر ملائمة لشرائح أوسع ،وهو يحسن من مستوى المرء في مجتمعه ويجعله أكثر مواكبة لمستجدات العصر.
*مبررات اقتصادية: التعلم عن بعد هو الأقل تكلفة للفرد والأعلى عائد للمجتمع ودفعا لعجلة الاقتصاد فيه.
*مبررات سياسية: يعد هذا النمط في أحوال عدم الاستقرار والاضطرابات السياسية هو الخيار الأفضل خاصة حين تغلق المؤسسات التربوية والجامعات.