متى يمكننا الذهاب إلى المدرسة؟ سؤال كل الطلاب حول العالم؛ وعادة ما يفتقد الآباء لإجابات شافية؛ فالمستقبل لا يزال غامضًا بعد أن تفشى فيروس “كوفيد-19” المستجد من كورونا، والذي طالت أخطاره أغلب بلدان العالم، وتسبب بإغلاق المدارس وتعطل شامل للتعليم التقليدي بشكل “لا مثيل له” وفق الأمم المتحدة.
وحتى اللحظة لا يزال ملايين الطلاب وبحسب الإحصاءات الدولية خارج الخدمة فيما يخص صيحات التعليم عن بعد التي أطلقتها العديد من الدول.. وسنرى قصصا واقعية لكل هؤلاء تستحق التأمل
لحظة عظيمة .. لكن
وفق صحيفة “كوارتز” يقول أندرياس شلايشر، رئيس التعليم في منظمة التعاون والتنمية: “إنها لحظة عظيمة” للتعلم. “كل الروتين الذي يبعد الأمور قد ولى والناس يبحثون عن حلول لم يرغبوا في الماضي في رؤيتها”، يقول:سوف يأخذ الطلاب زمام تعلمهم، ويفهمون المزيد عن كيفية تعلمهم، وما يحلو لهم، وما هو الدعم الذي يحتاجونه. سوف يقومون بتخصيص تعلمهم ، حتى لو لم تكن الأنظمة من حولهم”.
ويعتقد خبير التعليم أن “هذا المارد لن يعود للقمقم مجددًا” في إشارة لطفرة التعليم التكنولوجي عن بعد.
لكن- يستدرك الخبير- هذا التفاؤل مقرون بحل مشكلة “الإنصاف” وتعني أن يجد المتميزون الأمر سهلا مع وفرة الموارد وخلفية الأبوين الجيدة لمساندتهم.
ويعاني عدد كبير على الجانب الآخر من غياب: الغذاء والمأوى، الذي ساعدت المدرسة أحيانا في توفيره، أو الاحتياطيات المالية اللازمة لحمل الأسرة على المضي في تعليم أبنائها.
والأمر لا يتعلق فقط بالوصول إلى الأجهزة”، يقول. “إذا كنت لا تعرف كيف تتعلم بنفسك، إذا كنت لا تعرف كيفية إدارة وقتك، إذا لم يكن لديك أي دافع جوهري للتعلم أو في بيئة محبطة، فلن تكون تجربة ناجحة للتعلم عن بعد”.
لقد كشف نقل الطلاب في العالم على الانترنت بشكل صارخ عن أوجه عدم المساواة العميقة في النظام التعليمي.
الأرقام لا تكذب
ووفقا لبيانات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، أفاد أكثر من 95 في المائة من الطلاب في الدانمرك وسلوفينيا والنرويج وبولندا وليتوانيا وأيسلندا والنمسا وسويسرا وهولندا بأن لديهم حاسوبا لاستخدامه في عملهم. فقط 34% في إندونيسيا فعلوا ذلك. في الولايات المتحدة، قال كل طفل في الخامسة عشرة تقريباً من خلفية متميزة إن لديهم جهاز كمبيوتر للعمل.
سنلاحظ أنه حتى في أكثر الدول تقدمًا كانت هناك إشكالية مع غياب المساواة في التعلم عن بعد؛ وقد نشر موقع “جالوب” العالمي إحصاءات من عينة أجراها في الأسبوع من 24 حتى 29 مارس الماضي وتفيد بأن:
42٪ من الآباء قلقون COVID-19 سيؤثر على تعليم الطفل
70% فقط يخضع أطفالهم لبرنامج تعلم إليكتروني تديره مدرستهم
27% يقولون أنه يجب تمديد العام الدراسي إلى الصيف
16٪ يستخدمون برنامجًا مجانيا عبر الإنترنت غير مرتبط بمدرستهم
6٪ يستخدمون برنامجًا رسميًا ومدفوعًا للتعلم الخاص غير مرتبط بمدرستهم
11 % لا يخضع أطفالهم لأي نوع من التعليم بعد كورونا!
لماذا يقلق الآباء؟
يرفع كثير من الآباء أصواتهم القلقة عن مصير أبنائهم بسبب عدم سهولة تعاملهم مع برامج “التعليم عن بعد” التي انطلقت لاحتواء الأزمة؛ ومصدر هذا القلق نابع لغياب الخدمة التكنولوجية من إنترنت بسرعة كافية أو أجهزة كمبيوتر وهواتف ذكية، ليس هذا فحسب بل إن مشكلات مجتمعية أخرى فجّرها هذا النمط الحديث من التعليم من عينة احتياجه لدور أكبر للأبوين واللذين كثيرا ما يفتقدا لـ:
الوقت (لدواعي العمل أوكثرة الأبناء)
المال (بعد تأثر مصدر دخلهم الرئيسي جراء الوباء أو انقطاعه)
الخلفية التعليمية الكافية ليقوم الأبوين بدور المعلم(حال البيئات المهمشة عموما).
ووفقًا للمرصد العالمي لإغلاق المدارس الناجم عن تفشي فيروس كورونا، تضم المنطقة العربية 13 مليون طفل وشاب غير ملتحقين بالمدرسة بسبب النزاعات، وتواجه تحديًا إضافيًا سببه إغلاق المدارس الذي أضرَّ بملايين المتعلمين.
هؤلاء يتحدثون
ليس التعليم عن بعد هو دائمًا ذلك المنزل الهاديء الفسيح والطالب السعيد المحملق في شاشته؛ وعشرات القصص المنشورة خلال الآيام الماضية تثبت صحة ذلك.
إن حالة “السيدة غاو” التي نشرت عنها “نيويورك تايمز” وهي امرأة صينية تعاني من عدم قدرتها على الوفاء بنفقات الأسرة وبناتها بعد تعطلها عن العمل بفعل كورونا، فضلا عن متابعة دروسهن التي يتم بثها عبر الإنترنت؛ في منطقة تعاني من نقص الخدمات، هذه الحالة ببساطة تترجم أحوال الكثيرات غيرها.
وتعد الرقابة مشكلة أخرى؛ حيث تلفت إحدى الأمهات من الهند مثلا بحسب “إنديا تايمز” إلى مخاطر مكوث الأطفال لمدد طويلة على الإنترنت بمفردهم ؛ مشيرة إلى أن الآباء عادة يكونون في أعمالهم، وبالتالي توجد صعوبة في متابعة كل الأطفال طوال الوقت وقد يكتسبون عادات سلبية أو سلوكيات مشينة.
ومرة أخرى وضمن أسباب القلق، فقد ذكرت مجلة صينية ان اسرة واحدة فى منغوليا الداخلية حزمت أمتعتها وهاجرت الى مكان اخر فى الاراضي العشبية من اجل اتصال افضل بشبكة الانترنت.
لقد وقع العبء بشكل خاص على عاتق المرأة؛ وقد تحدثت إحدى الصحف عن حالة السيدة “لي” من كوريا الجنوبية والتي تعمل مع زوجها في القطاع الصحي، وهو ما يعني أن أعمالهما تضاعفت ولم يكن لهما رفاهية المكوث في الحظر المنزلي مع ابنهما؛ وهذا الافتراض قائم في أسر كثيرة أخرى.
مشكلة أخرى تشرحها سيدة عربية تتحدث عن كون الأسرة لا تمتلك سوى هاتفا واحدا ذكيا ينتظره الجميع بعد عودة الأب ليؤدوا مذاكرتهم وغالبا ما يغرق الصغار في النعاس قبل استكمال ربع مهامهم!
علينا التساؤل دائما عن أعداد الذين لم يتصلوا بالإنترنت من قبل، في مناطق واسعة مهمشة، أو جبلية؛ فمن الأمور الغريبة أن طلابا صينيين اضطروا إلى تسلق قمم جبال لالتقاط الشبكة حيث لا يزال نحو 60 مليون محرومون من الخدمة هناك، وقد تحدوا البرد لساعات طويلة لأجل استذكار دروسهم!
ليس الفقر أو انشغال الوالدين وغياب الخدمة فحسب هو الأزمة؛ لكن علينا التساؤل أيضًا عن هؤلاء الذين يعانون صعوبات تعلم، ومؤشرات توحد، أو أمراض نفسية، أو عضوية من عينة الصم والبكم، وهؤلاء يحتاجون بالطبع لعناية تعليمية أكبر ويجب التفكير في حلول تجعل الضعفاء ليسوا أكثر ضعفًا وأقل مساواة مع أقرانهم.
الإنسان عدو ما يجهل
هناك عقبة ثقافية لا يمكننا تجاهلها؛ تقول اختصاصية علم نفس اجتماعي تونسية، هاجر النيال، في تصريح منشور لدى “إندبندنت عربية”: “إن ثقافة الأسرة لم تعتد على هذا النمط من التعلم، إضافة إلى آن العقل الباطني للطالب اعتاد الحضور إلى المدرسة بسحرها وانضباطها وإطاراتها، بالتالي من الصعب أن ينضبط الحضور الذهني في درس يتلقاه عن بعد، فجأة ”
وهذا فضلا عن غياب جاهزية المدارس والمعلمين لهذا النمط من التعليم عادة في المدارس القطاع العام وخاصة في العالم العربي، وعدم توفر التقنيات الحديثة والتدريب الكافي للمعلمين.
العالم يفكر في حلول
بسبب هذه التفاوتات المتأصلة، يدعو بعض الباحثين إلى أن تركز المدارس العامة في تعويض الدروس الضائعة خلال فصل الصيف، بعد انقضاء الفيروس وانحساره، وهي دعوة تقدم بها دوغلاس هاريس، باحث تعليمي وزميل في معهد بروكينغز، مؤكدا أن على المدارس صياغة قدراتها من جديد لمواكبة هذا التطور وليس التعليم عن بعد فحسب.
وبالفعل تسعى الحكومات لتقديم إعانات للأسر لتجاوز العقبة؛ ومنها توفير الدروس على التليفزيون والراديو كما تفعل بلدان عربية، وتقديم اليابان منح للآباء في عزلتهم خاصة من انقطعت أعمالهم، وهو ما فعلته فرنسا، وباشرت حكومات إيران لجعل محتوى الإنترنت للأطفال مجانا، وسعت مصر لتجربة توفير خطوط الانترنت بتكلفة مخفضة، لكن المبادرات والحلول تطال شريحة دون أخرى حتى اللحظة.
ربما لهذه الأسباب تحدثت أودري اوزليه الأم العام لليونيسكو عن أزمة “الإنصاف” التي يجب حلها لإشاعة التعليم بين جميع الطلاب بعدالة وسهولة، مدشنة تحالفا دوليا للتشاور وتبادل الخبرات.
وبدورها عبرت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة، أمينة محمد، عن القلق من أنّ “إغلاق المدارس قد يؤدي إلى فقدان شبكة الأمان الأساسية بالنسبة لملايين الأطفال والشباب القادمين من فئات محرومة، لا سيما فيما يخص التغذية والحماية والدعم النفسي”.
وأضافت قائلة: “لسنا في مرحلة تتحمل مفاقمة أوجه عدم المساواة. بل حان الوقت للاستثمار في قدرة التعليم على إحداث التغيير. وإذ نقف اليوم على مشارف عقد العمل، تقع على عاتقنا جميعاً، كمجتمع عالميّ، مسؤولية الحرص على عدم ترك أي أحدٍ خلف الركب.”