يعد الخط العربي علامة مضيئة على تطور الحضارة العربية والإسلامية، سار في مواكبها وأثر كثيرا في تطور حركة الفنون، بل وتأثرت به فنون أوروبا، بعد أن تعددت أنساقه وجمالياته الساحرة التي تأسر الألباب، ودُونت به المصاحف منذ العصر العثماني، واتخذ الخلفاء أمهر الخطاطين للمكاتبات والتوقيعات وازدانت به المعابد والمساجد والقباب والمنسوجات، واعتبر علامة نهضة الحواضر العربية التي سارع الخطاطون فيها لابتكار أشكالا جديدة بمرور الزمن؛ من الحجازي والكوفي للجليل والثلث والأندلسي والنسخ والديواني والفارسي وصولا للخطوط الحديثة.
كانت هناك دوافع كثيرة لازدهار الخط العربي فلقد شعر العرب بحاجتهم للغة مكتوبة ومستقلة لتميزهم عن غيرهم، ولاستخدامها في العقود والمراسلات والتوثيق، وحث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على تعلم الكتابة فتنافسوا في اتقان الكتابة وتجويدها، ثم خاف المسلمون على القرآن الكريم من الضياع او التحريف فحرصوا على حفظه وجمعه، وجاء الخلفاء الأوائل فشجعوا الناس على تعلم الكتابة.([1])
اعتمد المسلمون في تنشئة الفن الاسلامي على فنون حضارات الأمم الأخرى، وكانت الصور منتشرة في الفن المسيحي و محرمة في الاسلام لذا حلت الكتابة بالخط العربي محلها.
وتتميز الكتابة العربية بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب. يقترن فن الخط بالزخرفة العربية حيث يستعمل لتزيين المساجد والقصور، كما أنه يستعمل في تحلية المخطوطات والكتب وخاصة نسخ القرآن الكريم. وقد شهد هذا المجال إقبالا من الفنانين المسلمين.
أصل الكتابة العربية
قسم العلماء العربيةَ، إلى بائدة وباقية؛ فأما البائدة فهي التي لم يبق منها إلا بعض النقوش الصفوية والثمودية واللحيانية، والتي تشير إلى أن تلك الأمم كانت تتكلم العربية، وأمّا الباقية، فهي التي يتكلم بها العرب في العصر الحالي.([2])
ولا توجد أدلة على الآراء الواردة بأن أصل الكتابة العربية توقيف من الله تعالى، علّمه لآدم – عليه السلام – كما باقي الخطوط، فالصحيح أن الكتابة تطورت عبر مراحل تطور البشرية من الكتابة التصويرية للرمزية ثسم الصوتية وصولًا للأبجدية المتعارف عليها حاليا، والتي تعني حرف لكل صوت من اللغة، وهي مراحل مرت بها كل اللغات البشرية القديمة كالمسمارية والهيروغليفية، لغتا بلاد الرافدين والمصريون القدماء.([3])
وهناك رأي بأن العربية كلغة مشتقة من الخط الحميري (المسند)، وهو خطّ أهل اليمن، انتقل إلى العراق؛ حيث تعلمه أهل الحيرة، ثم تعلمه أهل الأنبار، فنقلته جماعة إلى الحجاز، عن طريق القوافل التجارية والأدبية.([4])
وهناك آراء أخرى أهمها أنّ من وضع الخط العربي، رجل من بني يخلد، يدعى النضر بن كنانة، فكتبت به العرب، وقيل بان أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل – عليه السلام – وصفه على لفظه ومنطقه، وقيل أن أول من وضعه نفيسًا ونصرًا وتيمًا ودومة بني إسماعيل، وضعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدًا موصول الحروف.
لكن المستشرقين وعلماء اللغة اجمعوا على أن الخطّ العربي مشتق من الخطّ النبطي، وأن العرب أخذوا الخط العربي عن أبناء عمومتهم الأنباط قبل الإسلام، والأنباط هم قبائل عربية نزحت من الجزيرة العربية وسكنوا في المناطق الآرامية في فلسطين وجنوب بلاد الشام والأردن، ويتفق الدكتور جمعة إبراهيم مع ما ذهب إليه الفقيه اللغوي جواد علي : إن أغلب حروف وأشكال الخط العربي مشابهة لحروف الخطّ النبطي المتأخر وأشكاله، ويستند العلماء هنا إلى النقوش النبطية التي كشفت الصلة بين الخط العربي والنبطي، وأهمها نقش النمارة، وهو يشير إلى قبر امرئ القيس بن عمرو، من ملوك الحيرة، وقد دوّن بالرسم النبطي المتصل الحرف، والرسم.([5])
ازدهار فن الخط في عهد المسلمين الأوائل
تلقى العرب الكتابة وهم على حالة من البداوة الشديدة، ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار في الخط الذي وصل إليهم، ولم يبلغ الخط عندهم مبلغ الفن إلا عندما أصبحت للعرب دولة تعددت فيها مراكز الثقافة، ونافست هذه المراكز بعضها بعضًا على نحو ما حدث في الكوفة والبصرة والشام ومصر فاتجه الفنان للخط يحسنه ويجوده ويبتكر أنواعاً جديدة منه. ([6])
كان العرب يميلون إلى تسمية الخطوط بأسماء إقليمية لأنهم استجلبوها من عدة أقاليم فنسبوها إليها مثلما تنسب السلع إلى أماكنها، لذلك عرف الخط العربي قبل عصر النبوة بالنبطي والحيري والأنباري، لأنه جاء إلى بلاد العرب مع التجارة من هذه الأقاليم وعندما استقر الخط العربي في مكة والمدينة وبدأ ينتشر منها إلى جهات أخرى عرف باسميهما المكي والمدني.
ولم ينتشر الخط العربي إلا بعد بعث النبي محمد، ولم تنتشر الكتابة انتشارا واسعا بين المسلمين إلا بعد غزوة بدر، حيث أمر النبي أسرى بدر ممن يعرفون الكتابة أن يفتدوا أنفسهم بتعليم عشر من صبيان المسلمين الكتابة.
ولم ينل الخط العربي قدرًا من التجديد والإتقان إلا في العراق والشام، وذلك بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في العصر الأموي ثم ورثتها الدولة العباسية، وفيهما نشطت حركة العمران فظهرت الكتابات على الآنية والتحف واعْتُني بكتابة المصاحف وزخرفتها.
كتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم، وصار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى أن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم الكتابات العادية التي دونت به. وجاء بعد الخط المسند الخط الآرمي نسبه إلى قبيلة إرم، وهو الخط الذي دخل الجزيرة العربية مع دخول المبشرين الأوائل بالنصرانية، حتى أصبح فيما بعد قلم الكنائس الشرقية. وهناك القلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود. والقلم اللحياني نسبة إلى قبيلة لحيان. والقلم الصفائي أو الصفوي الذي عرف بالكتابة الصفائية نسبة إلى أرض الصفاة وهي الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.([7])
نسخ المصاحف يدفع بفن الخط للأمام
استمرت حالة تطور الخط العربي في بداية عهد الخلفاء الراشدين على ما كانت عليه في العهد النبوي، وقد كتب زيد بن ثابت صحف القران بالخط المقور في عهد أبو بكر الصديق، وذلك في الجمع الأول للقران الكريم. ([8])
وكان الصحابة يكتبون القرآن بخط الجزم جنبًا إلى جنب مع الخط المقور. ولما قام عثمان بن عفان بجمع القران الجمع الثاني، بعد أن انتشر اللحن والاختلاف في قراءة القران، حيث قال: «أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إمامًا». اختار لمهمة نسخ المصاحف أربعة هم: زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمَّر زيدًا فيهم بكتابة المصحف على حرفٍ واحد. كان أبرز ما ميز مصحف عثمان هو الرسم العثماني، الذي استمر ميزة لكتابة المصاحف حتى الوقت الحاضر.
لما أُرسلت المصاحف إلى إلى مكة والشام واليمن والبصرة والكوفة وغيرها، تسارع الناس إلى نسخها، وتنافسوا في كتابتها، وتفننوا في أوضاعها، وأبدعوا في إجادة تنميقها، حتى اتخذ النساخ في كل جهة وبلدة طريقة خاصة بهم تميزت باسم خاص. من ذلك الخط المدني ويسمى المحقق والوراقي، والخط المكي والبصري والكوفي والأصفهاني والعراقي (وهو ثلاثة أنواع: المدور والمثلث والتَّم، ومعنى التم في الأصل المولود مع آخر في بطنٍ واحد، ويمكن أن يشبه خط التم بخط التعليق وهو ما كان بين خطي الثلث والنسخ)، والخط المشق والتجاويد والمصنوع والمائل والراصف والسلواطي والسحلي، والقيراموز وهو الذي تولد منه الخط الفارسي.
ظهور التنقيط في الخطوط العربية
منذ أن كُتبت مصاحف عثمان، ظلت خالية من النقط والتشكيل، واستمر ذلك أكثر من أربعين سنة، وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام، فتفشت العجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف.([9])
استمر الوضع على ماكان عليه حتى تولى علي بن أبي طالب الخلافة، فشكا أبو الأسود الدؤلي إلى علي هذه الظاهرة فعلمه مبادئ النحو، وقال له: «الاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى، والحرف ما ليس هذا ولا ذاك، ثم انح على هذا النحو».
وقيل بأن أول من التفت إلى نقط المصحف هو زياد بن أبيه، وفيه أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة أن يبعث إليه ابنه عبيد الله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له: «إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله»، فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة، بأن وضع في طريقه رجلًا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيءًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه، فلما مرّ به قرأ الرجل آية من القران ولحن فيها، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: «عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله». وقال لزياد: «قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن».
كانت الأقلام الخطوط في العصور الإسلامية المبكرة تسمى بمقاديرها كالثلث والنصف والثلثين، كما كانت تنسب إلى الأغراض التي كانت تؤديها كخط التوقيع أو تضاف إلى مخترعها كالرئاسي نسبة إلى مخترعه، ولم تعد الخطوط بعد ذلك تسمى بأسماء المدن إلا في القليل النادر. قام العرب والمسلمون بابتكار أنواع عديدة من الخطوط العربية، أشهرها: الخط الكوفي وهو أقدم الخطوط، وخط النسخ الذي استخدم في خط المصاحف، وخط الثلث وسُمي بذلك نسبة إلى سُمك القلم، وخط الرقعة وهو أكثر الخطوط العربية تداولًا واستعمالًا، وخط الديواني نسبة إلى دواوين السلاطين، والخط الفارسي نسبة إلى فارس.([10])
ثم انتقلت الخطوط المعروفة بالمدنية والمكية إلى البصرة والكوفة، مع انتشار بقعة الإسلام وبأمر من الخليفة عمر بن الخطاب بين عامي 17 و19 هجريا، وبعدما انتقل مركز النشاط السياسي إلى العراق، فعُرفت الخطوط باسم مدن عربية هامة ثم عرفت جميعا في العراق باسم “الخط الحجازي”.
في الحلقة القادمة نتعرف على أسرار انطلاقة أشهر الخطوط العربية في عصور الخلافة وأشهر خطاطي العصر ..
الأمويون .. العصر الذهبي للخط الكوفي والثلث
العباسيون.. إبداعات خط الجليل
مصر.. الكوفي والديواني والثلث على جدران المساجد
المصادر :
نسخة إليكترونية من كتاب ” [1] https://www.baianat.com/ar/books/arabic-calligraphy-culture/the-arabic-calligraphy-as-a-form-of-art
[2] – جورجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص27، 28.
[3] – جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، ج.1، ص185، 199
[4] – حسن قاسم حبش: الخط العربي الكوفي، ص:11
[5] – جمعة إبراهيم: قصة الكتابة العربية، ص9
[6] عمرو إسماعيل: الخط العربي .. فن تاريخ أعلام، وكالة الصحافة العربية، ص: 31
[7] جواد علي (د): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج15، ص:153
[8] يحيى وهب الجبوري، الخط والكتابة في الحضارة العربية، دار الغرب الإسلامي، ص:113
[9] محمد طاهر الكردي : تاريخ الخط العربي وآدابه، القاهرة : مكتبة الهلال، ص 7 – 8
[10] عمرو إسماعيل، مصدر سابق، ص: 175