عندما تتحدث إلى الآخر بلغتك سيفتح لك عقله، وإذا تحدثت إليه بلغته وثقافته سينفتح لك قلبه!
هكذا تخبرنا د. عبير حيدر، أستاذ تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، والتي طافت 20 دولة حول العالم لتكتسب الخبرات في تعليم العربية كلغة ثانية، كما حازت الدكتوراه من جامعة مينسوتا الإسلامية الأمريكية، ودرّست للطلاب في جامعات أمريكية عدة، وهي حاليا أستاذ بمركز تعليم اللغة العربية للأجانب في جامعة قطر .
تهتم د. عبير كثيرا باستخدام التقنيات الحديثة في تعليم العربية، وهي تهتم كثيرا بمد الجسور مع طلابها، وتؤكد في قناتها عبر يوتيوب DR.Abeer teaches Arabic أهمية فهم ثقافة الشعب الذي تتعلم لغته وموروثاته، لتمنح لغتك نكهة مختلفة، حتى لو لم تكن تتحدث بطلاقة، والأمر نفسه ينطبق على معلّم العربية للأجانب والذي بدوره ملتزم بأن يتفهم ثقافة المتعلم ولا يقولب الجميع في قالب واحد!
رُشحت تجربة د.عبير حيدر للمشاركة في كتاب جامعة كامبريدج ضمن 150 ورقة بحثية من القارات الخمس، وفي اللقاء التالي تتحدث د. عبير لـ”كلمن” عن جوانب تجربتها المثمرة.
*ما ابرز مشكلات تعليم العربية بالطرق التقليدية، لغير الناطقين بها؟
** نحن نعيش عصر التكنولوجيا والتواصل الفعّال ومصادر المعرفة المفتوحة، وهناك سباق حقيقي في تقديم اللغات الكبرى للتعلم كلغة ثانية حول العالم، ورغم أهمية تعلم اللغة العربية وثرائها نجد أننا لازلنا متمسكين بالطرق المتبعة من قديم الزمان في تعليمها بدون مواكبة للعصر، إلا فيما ندر، ولهذا أركز في الورش التدريبية الحالية للمعلمين على أهمية معرفة الأساليب الحديثة مثل الألعاب اللغوية، وإجادة استخدام التكنولوجيا والتوقف عن الرهبة من استخدام التقنيات والأجهزة مثل التواصل عبر غرف الزوم ورفع الفيديو والمواد الإعلامية المصاحبة.
على معلم العربية للأجانب أن يكون حريصًا على فهم ثقافة طلابه، وإكسابهم الثقافة العربية، فهذا مثلا يعينه على ضرب أمثلة مرتبطة بمجتمعاتهم، وهو ما يجعل هناك ألفة بينهم وبين المعلم، وبالعكس عليه أن يدربهم على نظير تلك المفاهيم في مجتمعات العرب، وهنا تتحول الدراسة لمتعة، ويجب أن يرتبط التطور اللغوي بالحافز بشكل مستمر، وأن يتفاعل الطالب مع معلمه وزملائه بالعربية بشكل مستمر فيكتسب الثقة ويزول خوفه.
استخدام النصوص الملائمة الفعالة أمر هام جدا بحيث تجعل الطالب أكثر اندماجا في الحياة اليومية، وليس فقط الحياة التراثية القديمة التي لا نجد لها صدى حين يختلط الطالب بالناس في الأسواق والمطاعم والتجمعات عمومًا، وتجعله نوعًا ما مثارًا لسخرية الناس.
على معلم اللغة العربية أن يفكر في جعل الساعات التي يقضيها الطالب أمامه في تعلم لغة معروف أنها بين أصعب لغات الأرض، لثراء قواعدها ومفرداتها، يجب أن تتحول تلك الساعات لمتعة حقيقية وتواصل فعّال، لا يجب أن نلقن الطلاب بالنمط القديم، لابد أن ينمي مهاراته الأربع الكتابة والقراءة والسماع والتحدث، في كل محاضرة، يشاهد فيديوهات ويمارس ألعابا، ويستمع لمقاطع، وكلها متدرجة في الصعوبة بما يلائم مستوى الطالب من المبتديء إلى الإتقان التام.
أخيرا أذكر بين المشكلات ما أصفه بـعقدة الكمال؛ وهي مطالبة المبتدئين بدرجة الإتقان القصوى للغة الفصيحة، وهو أمر ينفر الطلاب الجدد، كما لازلنا نعاني من غياب البرامج المتطورة في تعليم العربية، وبنظرة يسيرة على التطبيقات والفيديوهات عبر يوتيوب سنلاحظ الفارق بين تقنيات تعليم الإنجليزية والإسبانية والصينية مثلا، وتلك التي نستخدمها مع اللغة العربية، من حيث استخدام الموارد الحديثة والألعاب وأساليب الشرح وجودة الصورة والمادة العلمية ومدى إمتاعها وتفاعليتها وتدرجها وفق الأساليب العالمية.
*ماذا تقصدين بتلك العقدة التي تصعب تعلم العربية؟
**يتصور كثير من معلمي العربية أن واجبهم تجهيز طلابهم للفصاحة بشكل مباشر وسريع، ولهذا نحن نصر مثلا على إكساب الطلاب مفردات كبيرة من عالم السياسة مثلا كـ”أمم متحدة” مع ان المفترض ان يبتديء بما يلائم الحياة اليومية كمفردات ملائمة للشارع والسوق والمطعم وما شابه.
ينطبق ما سبق على نطق اللغة العربية، هناك معلمون يصرون على إجادة المتعلم للنطق السليم للغة، مع أن كثيرا من الشعوب ينتمي لنظام صوتي مختلف تماما ويجد صعوبة حقيقية في تقديم الحروف العربية مثل الضاد والظاء وما إلى ذلك.
هناك مشكلة أيضا في تعليم قواعد اللغة العربية، فالمعلم يصمم على جعل الطالب المبتديء يستخرج المفعول المطلق مثلا، وهو نادر الاستخدام، لا أقول أنه يجب عدم تعلمه، لكن الأولى هو النحو الوظيفي الذي يساعده على تكوين جملة سليمة يتحدث بها، ويفهم من خلالها دور كل مفردة ووظيفتها من حيث كونها فاعلا أو فعلا أو مفعولا به أو ظرفا، وهذا يسهل عليه فهم ما يستمع إليه حتى لو لم يفهم معانيه، بمجرد فهم موقع الكلمة وصيغتها وتخمين وظيفتها، ثم نتقدم معه في تعلم النحو كلما تقدم في المستوى.
*هل اللغة العربية صعبة في تعلمها بالفعل؟
** بشكل نسبي ومقارنة ببقية اللغات، هناك لغات تعد بين الأكثر صعوبة، أو دعونا نقول تحتاج اجتهادا في دراستها، لأن كل شيء صعب مع التقنيات الجيدة في التعلم تصبح يسيرة، وبين تلك اللغات العربية والصينية، بالطبع لثرائها في المفردات والقواعد، وأنا في التكنيكات الحديثة أسعى لتحفيظ الطلاب بعض العبارات اليومية التي تمنحهم الثقة في التواصل مع الآخرين ويتعود على استخدامها بشكل متكرر ومتراكم في قاعة الدرس.
لكن دعوني أخبركم أن صعوبة تعلم العربية ميزة كبيرة، لأنها تجعل عدد متعلميها أقل، وكل منهم مميز في موقعه في أي بلد أجنبي، وقد رأيت كيف يتضاعف راتب مترجم العربية وخاصة في فرع العلوم الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاليا تتزايد معاهد ومدارس تعليم العربية في أوروبا وآسيا وأمريكا، لأن عالمنا العربي له ميراث حضاري كبير مشهود، وله حضور أدبي لغوي، وله سوق أيضا واعدة في مجالات كثيرة ولهذا يعد تعلم العربية ميزة نسبية كبيرة لاي طالب حول العالم.
*ما أبرز النصائح لكسر رهبة تعلم العربية كلغة ثانية؟
**هناك تقنيات عادة أركز عليها مع طلابي، ومنها كسر الرهبة والخوف من التحدث أمام الآخرين، وبخاصة الفتيات، وذلك عبر التدريب المستمر بالوسائل الحديثة .
من الهام الهروب من التشتت التكنولوجي وتخصيص وقت ثابت للدراسة لا يقل عن ساعة يوميا، والتعرض المستمر لسماع مواد عربية ملائمة لمستوى الطالب وليست أكثر صعوبة أو سطحية، فالتعرض مثلا لمواد إعلامية مثل برامج التوك شو والأفلام العربية في مرحلة المبتدئين يعد صعبا للغاية لأن المتحدث تكون لغته عامية وسريعة وفيها سياقات غريبة على الطالب، فالتدرج مطلوب.
أخيرا أنصح بالتواصل المستمر مع المجتمع العربي، واتخاذ صديق عربي للتواصل، لأن ذلك يمنحك مفردات يومية، ومحاولة اكتساب الثقافة اليومية بمتابعة البرامج العربية عبر الإنترنت او بالاختلاط المباشر بالعرب في أماكن تواجدهم وبلدانهم إذا أتيح ذلك، وهذا ملائم لمن قطع شوطًا في التعلم ويرغب في تعميق تجربته في الممارسة.
*هل تعلُّم العامية يؤثر سلبا في تعلم الفصحى؟
**البعض يتخيل أن تعليم اللغة العامية في الصفوف الدراسية هو من قبيل الإضرار باللغة الفصيحة، لكن الحقيقة أن ذلك ليس واقعيا، طالما أنه يتم بشكل مدروس، فمن الهام أن يتقن الطالب اللغة المحكية باللهجة التي يستهدف الحياة والعمل بها، إلى جانب لغة الصحف ووسائل الإعلام والكتب، فإتقان العامية يسهل التواصل مع الناس كثيرا، على الأقل من باب فهم ما يريدون قوله.
وأنا أحيذ كثيرا تعلم اللهجة المصرية تحديدا لخفة ظلها، وسهولة فهمها في جميع الأقطار العربية بحكم كونها لغة الدراما والفنون والإعلام منذ عقود، وهي لغة لها طبقات ما بين الدارجة وصولا لعامية المثقفين وعامية المتنورين ثم اللغة الفصحى التراثية المستخدمة من قبل رجال الدين وهكذا، وعادة أميل للإكثار من اللغة الوسيطة الراقية والتي تختلف عن عامية الرجل الأمي، وكتبت بها أشعار مصرية مبهرة مثل التي قدمها جاهين وحداد.
*تركزين في برامجك على ضرورة احترام المدخل الثقافي مع الطلاب. حدّثينا عن ذلك.
**بالفعل، أنا مثلا لدي طلاب من 40 دولة، وهم مختلفون بشكل كبير، هناك من لا يقبل أن تحييه فتضع يدك مثلا فوق كتفه، لأن هناك شعوبا تعتبر لمس الجسد بأي صورة إهانة، وهناك من يعتبر تشبيهه بأي جنسية أخرى إهانة، وهناك إشارات وتشبيهات يساء فهمها أو غير مرحب بها من جنسيات معينة، ولهذا عليك أن تتفهم كل ذلك قبل خوض التواصل مع طلابك.
وفي المقابل على الطالب فهم الثقافة العربية ضمن دراسته للغة لأن اللغة ابنة الثقافة وليست نبتا من فراغ، وهذا يحيله مثلا للمسافة الواجبة في التعامل مع المرأة العربية، وأمور من عينة عدم الخطأ ونعت رجل بأي وصف يناسب الأنثى، لأنه يعتبر إهانة.
وبخصوص الثقافة، أحب أيضا إلى جانب دمج البرامج الثقافية مع اللغوية، أن أركز على الأمثلة الشعبية الدارجة، لأن معرفتها يطلعك على ثقافة الشعب ويجعلك أكثر فهما للحديث اليومي، مثل “يوم عسل ويوم بصل”.
*ما أكثر الدول اهتماما بتدريس اللغة العربية بالتقنيات الحديثة؟
** أصبح ذلك منتشرا في تركيا التي تدرس العربية في أغلب جامعاتها ومدارسها، وهناك ألمانيا التي تهتم بالعربية لأسباب بينها التواصل مع موجات اللاجئين السوريين الوافدين، وتهتم دول آسيا كثيرا جدا بالعربية وبالذات الصين وإندونيسيا والهند.
وفي العالم العربي هناك الإمارات وقطر، لديهما أشهر أقسام تعليم العربية للأجانب، والجامعات الأمريكية حول العالم تتبنى مناهج حديثة، وبعض المراكز في مصر بدات تطبيق المفاهيم الحديثة تدريجيا ولكنها تحتاج للانتشار واعتماد الأساليب العصرية أولا بأول ومن ثم تطبيقها حتى على طلاب المدارس والجامعات محليا.
*حين يسألك أحد طلابك عن سبب تعلم اللغة العربية، كيف تجيبينه ؟
على معلم العربية للاجانب أن يكون راغبا حقا في خوض هذا المجال الشاق، ومهتما بتنمية الحافز والدافعية لدى طلابه في مواصلة طريق تعلم العربية، وهي اللغة التي تمكنك من فهم الدين الإسلامي وكتابه المقدس، وجميع الكتب التراثية والمعاصرة للمسلمين.
الوطن العربي مهد الحضارات واللغة العربية بوابة هامة للتواصل مع نحو 400 مليون نسمة، وبوابة قراءة التاريخ والإبداع العربي شعرا ونثرا والاستمتاع بالفنون العربية وهو إبداع عالمي أصيل ومنقطع النظير.
وتعلم العربية يمكنك من فهم نشرات الأخبار والمواد الإعلامية العربية، والتميز في مجالات العمل بامتلاك واحدة بين أهم خمس لغات انتشارا، ويمكن ان تصبح وسيلة للترقي المادي والمهني، في المجال الدبلوماسي ومجالات التدريس والإعلام والسياحة وغيرها.
إن طريق تعلم اللغة العربية كلغة ثانية ممتع رغم صعوبته، ولكنه يستلزم أن يكون مرشدك مقتنع تماما ومتشرب لحب هذه اللغة وقادر على نقل المتعة إليك عبر كل شيء بما في ذلك النحو والصرف! ومن الهام أن يكون ذلك المعلم عصريا وبخاصة بعد جائحة كورونا التي جعلت التواصل عبر التكنولوجيا وأساليب العصر فرض عين!