قديما قيل: «الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية، إن جَوَّدت قلمك جودت خطك، وإن أهملت قلمك أهملت خطك».
ياقوت بن عبد الله الموصلي، خطاط عربي شهير توفي 618هـ
وإلى جانب الوظائف السامية التي قامت بها الحروف العربية كوسيط لنقل المعارف والتراث ونسخ القرآن الكريم، وقد تطرقنا خلال الحلقتين الأولى والثانية إلى جوانب من تلك الرحلة، فإننا اليوم نجد أن تلك الحروف من الناحية الفنية تتمتع بالقدرة على الصعود والنزول والانبساط والمرونة في تغيير اشكالها لذا يعد الخط العربي فنًا تشكيليًا، ، والأهم هو إمكانية التداخل والتشابك بين الحروف خاصة في الحروف الرأسية كالألف واللام لتصنع حوارا شكليا جميلا أقرب للزخرفة، وتلك الصفات تجعل الحرف سهل التعبير عن حركته وكتلته فينتج حركة ذاتية تجعل الخط خفيف الكتلة وذو رونق مستقل يجعله يحقق احساسًا بصريًا ونفسيًا وايقاعًا جميلًا.([1])
ومن بين مقومات الخط العربي الفريدة من الناحية للفنية، هي قابليته لـ: الامتداد الرأسي للحروف القائمة والتحكم في طولها ومنها الام والألف وقوائم الظاء والطاء، ثم تأتي إمكانية البسط للحروف الأفقية مثل السين والصاد فيعطي إحساسا بالاتزان في شكل الحروف.
تتيح الحروف العربية للفنان إمكانية التدوير وتقويس الحرف على هيئة نصف دائرة مثلا في حروف الجيم والحاء والخاء والسين، مع إمكانية المط وزيادة الحجم والطول في حروف مثل الراء والهاء والواو، مع قابلية الضغط أي تجميع الأجزاء معا فتصبح الحروف منكمشة، كما تتيح الحروف إمكانية التزوية أو التربيع وهي قابلية الحروف لاكتساب أشكال هندسية وقد ظهر ذلك في الخط الكوفي الهندسي منذ قرون.
يتميز الفن الفن الاسلامي بالايقاع وهو جزء مهم وعامل مؤثر في اللوحة ولزيادة نسبة التوازن بين احجامها فيعطيها منظرًا جماليًا مألوفًا يؤثر في احساس المشاهد، اعتمد الايقاع في الفن الاسلامي على الخط اللين والهندسي وعلى التماثل والتبادل والتناظر وكذلك توزيع الوحدات وتعدد المساحات وتوزيع الخط وسط كل تلك العناصر.
نادرًا ما نرى في اي عمل فني ايقاعًا واحدًا بل غالبًا ما يشمل عدة ايقاعات لكي يُكسب اللوحة تجديدًا وتنويعًا في الشكل، لذا تكون الكتابة العربية في اللوحان الخطية دائمًا اكثر من العناصر الزخرفية.
يقول الفنان بيكاسو: “إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد”.
وبعد أن تعرفنا على رحلة الحروف العربية من الحجاز للكوفة والحواضر العربية الكبرى في الخلافة الأموية والعباسية، نتطرق اليوم بإيجاز لرحلة الحروف العربية في مصر الأيوبية والفاطمية، وفي بلاد فارس ومقر الخلافة العثمانية وفي بلاد المغرب العربي.. رحلة طويلة لم تنته حتى يومنا من الإبداع والفرادة.
مصر.. الكوفي والديواني والنسخ بأشكال فائقة
دخل الخط الكوفي إلى مصر مع الفاتحين وبه كانت تكتب الرسائل بين الولاة والخلفاء إلى جانب تداوله في الأغراض الأخرى.
عاش الخط العربي في مصر حقبة تاريخية طويلة . امتدت من 297 هـ الى 917 هـ لاقى فيها هذا الفن عناية فائقة فأنتشر على يد عفيف الدين وطبقته . وبرز الخطاط طبطب الذي ينسب اليه تجويد مدرسة الخط العربي في مصر خلال العصر الطولوني ثم ظهر بعد ذالك ابن أبي رقيبة وشمس الدين الرفتاوي وابن الصايغ الذي أحب طريقة عفيف الدين . وكان لهؤلاء أثر بالغ في تطوير الخط العربي.
امتد تأثير مدرسة بغداد إلى مصر بحملها خطاط هو الحسن بن علي الجويني المعروف بالبغدادي، وكان يلقب بفخر الكتاب. إن أقدم مصحف في مصر من جامع عمرو بن العاص كتب بالخط الكوفي على الرق وهو خال من الشكل والتنقيط، ومصحف آخر مكتوب على الرق بقلم أبي سعيد الحسن البصري سنة 696م وهو مضبوط على طريقة أبي الأسود الدؤلي.
وفي عصر الطولونيين شاعت شهرة الخطاط طبطب، وكانت الخطوط العربي قد بدأت تشكل أشرطة في الجوامع واستمر ذلك في العصر الفاطمي.ونافست مصر العراق في الإنتاجيات الفنية للخط والزخرفة.([2])
وفي حكم الفاطميين لمصر اختلط الخط العربي بخط المشارقة بمضي الزمن إلا أن كتبة المصاحف كانت بالنسخ، وشاعت الزخرفة بالتوريق في عهدهم، وكان أصحاب الأقلام يتمتعون بالحظوة لدى الخليفة، يدارسونهم كتاب الله، ويتلون عليم سير الأنبياء والخلفاء والعظماء، ويحدثونهم عن مكارم الأخلاق، ويقوون أيدي رجال القصر الحاكم وأهله في تجويد الخط.([3])
وبعد الدولة الأيوبية تولى مصر قلاوون أول من حكم من المماليك، وفي عهدهم شيدت المساجد والمقابر والأضرحة وكتبت وذهبت المصاحف، وافتتحت مدرستا ابن أبي رقيبة، والشيخ شمس الدين الزفتاوي لتعليم هذه الفنون.
وقد تأثرت مصر في العصر الأيوبي بمؤثرات سلجوقية، ومنها الكتابات النسخية باسم محمود بن زنكي، وصلاح الدين يوسف بالقدس، واستخدم المماليك أشكالا من الخطوط الكوفية للزخرفة مثل الكائن في مسجد الغوري والسلطان قلاوون ومدرسة السلطان حسن، كما استخدم المماليك الزخارف الخطية الهندسية في مبانيهم واهتموا بالتأليف وتدوين المخطوطات، وكان من مشاهير الخط: شمس الدين ن أبي رقية محتسب الفسطاط.([4])
رجال الخط المصريين ينقلون الفن لاسطنبول
ونبغ في هذا المجال خطاطون مصريون كبار وضعوا أسساً فنية جديدة للخط العربي، وبينهم : نصر الدين بن وهبة بن محمد المتوفى سنة 654هـ، وعلي بن أبي سالم المصري المتوفى 788هـ، والشيخ إسماعيل عماد الدين المتوفى 788هـ، والقلقشندي المتوفى 821هـ، والخطاط البارع الذي كانت له شهرة واسعة عبدالرحمن بن الصائغ المتوفى 845هـ، والخطاط محمد بن حسن الطيبي المتوفى 908هـ، وحسن أفندي الضيائي المتوفى 1092هـ، والسيد إبراهيم بن قاسم الرويدي المتوفى 1127هـ، وشيخ خطاطي مصر في زمانه إسماعيل بن عبدالرحمن المتوفى 1187هـ، وأحمد بن عبدالله الرومي المتوفى 1194هـ، وإسماعيل بن خليل المصري المتوفى 1211هـ، والخطاط علي بن عبدالله الرومي المتوفى 1219هـ.
وفي أعقاب الفتح العثماني لمصر 1517م جمع السلطان العثماني سليم الأول (1512 – 1520م) رجال الفن المهرة في جميع المهن وعلى رأسهم كبار الخطاطين المصريين، ثم تم ترحيلهم إلى العاصمة العثمانية إستانبول حيث قاموا هناك بتعليم الأتراك هذا الفن الجميل حتى أصبحت تركيا من أهم معالم الخط العربي.([5])
ومنذ أن أنشئت مدرسة تحسين الخطوط الملكية سنة 1921م تحت رعاية الخاصة الملكية، كان لمصر النصيب الأوفى في تجويد هذا التراث، وتفجرت مواهب فذة تفاعلت مع جميع أنماط هذا الفن، وكانت هذه المدرسة مصدر الإشعاع الفني، الذي تفوق فيه كثير من الفنانين، فأضافوا إلى الخط الثلث التكوينات المعمارية، وإلى الخط الكوفي التشكيلات الهندسية الزخرفية وفن التذهيب، وقد أخذت مصر عن العجم الخط المعروف بـ(النستعليق) أي أنه خليط بين النسخ والتعليق.
وفي القرن الثالث عشر الهجري ظهر في مصر أحد الرواد الأوائل في الخط العربي بمصر، وهو الخطاط الكبير إبراهيم مؤنس وابنه محمد مؤنس اللذان علّما على يديهما مشاهير الخطاطين في عصرهما وكبار الخطاطين في مصر، وكانت دارهما أول مدرسة للخط العربي في مصر.
يوسف أحمد .. باعث الخط الكوفي في مصر
ومن كتابات الأتراك بدأ أهل مصر والشام ينقلون، وقد كان للراحل يوسف أحمد، الفضل في بعث الخط الكوفي من مرقده بعد مئات السنين، وقد كان أستاذا لهذا النوع من الخط بمدرسة الفنون منذ سنة 1932 بقسم الآثار في كلية الآداب، وقد كان جزء من عمله تابع للجنة حفظ الآثار العربية ومنها الزخارف والخطوط الأصيلة، فصار يقلد كل كتابة من الكتابات المنقوشة على الأثر ويكتب على أسلوبها ويتمم النقص الذي يكون على الآثار منها، ومُنح الجائزة الثانية في مسابقة إصلاح خطوط المطبعة الأميرية ومن بينها الخط الكوفي، والتي لم يتقدم لها إلا ثلاثة فقط من العالم العربي كانوا يجيدون تلك الخطوط.
وبخصوص الخط الديواني، ففي عهد السلطان احمد الثالث قام الوزير الخطاط احمد شهلا بك بتجويد الخط الديواني وكان ماهرًا في الخط الديواني الجلي، وقام محمد عزت التركي معلم الخط في المكتب السلطاني بتجويده ايضًا، وبعد الانقلاب التركي اُهمل هذا الخط تمامًا وشاع استعمال الحروف اللاتينية في تركيا.
الى ان جاء الخطاط محمود شكري باشا المصري وقام بتجويده ثم من بعده الخطاط مصطفى غزلان المصري الذي قام بتجويده وزاده حسنًا وجمالًا ورونقًا حتى ان الخط الديواني سمي الخط الغزلاني نسبة الى مصطفى غزلان وقد وضع فيه كراسة.([6])
ومن المصريين في الوقت الحالي الذين اشتهروا بالخط الديواني الاساتذة: محمد عبد القادر وشقيقه الحاج زايد ومحمد عبد العال الذي وضع فيه كراسة.
إيران .. زخارف مبهرة من خط النستعليق
وقد أخذ الإيرانيون المسلمون عن العرب طرائق الخط والتذهيب العباسي، وتظهر المدات أكثر وضوحا من الجرات.
وتطور الخط الكوفي الإيراني تطورا كبيرا في المصاحف السلجوقية التي تنتمي إلى القرنين الحادي والثاني عشر، وظهر نوع يعرف بالكوفي المزهر تزدان فيه الحروف بمراوح نخيلية تشبه زخارف التوريق، وقد ظهر أثر هذه الخطوط أيام الدولة الأيوبية عندما انضم إليهم التركمانيون حيث انتشر الخط الأتابكي.([7])
ابتكر الخطاطون الإيرانيون الخط الفارسي في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ثم ابتكروا خط النستعليق من الخط الفارسي والنسخ والتعليق، وكان هذا الابتكار بجهود الخطاط عماد الدين الشيرازي الحسني، إذ وضع له قاعدة اشتهرت باسمه فيما بعد فسمِّيت قاعدة عماد. كما حوَّروا الخط الكوفي فأصبحت المدَّات فيه أكثر من الجرَّات.من هذه الأماكن الأثرية التي احتوت خطوطًا رائعة: الجامع الكبير في أصفهان، وجامع لطف الله، والأربعون عمودًا، والجسور الكثيرة المنتشرة على نهرها الكبير زينده رود مثل جسر خاجو.
المغرب .. إبداعات القيرواني والأندلسي
أما بالنسبة للخط المغربي المشتق من الخط الكوفي، والذي كان يسمى بخط القيروان، نسبة إلى عاصمة المغرب المؤسسة سنة 50 هجرية، فقد اكتسبت هذه المدينة أهمية عندما انفصل المغرب عن الخلافة العباسية، وصارت عاصمة الدولة الأغلبية ومركز المغرب العلمي فتحسن بها الخط المغربي وظهر الخط التونسي والجزائري والفاسي والسوداني.([8])
ولما انتقلت عاصمة المغرب من القيروان إلى الأندلس ظهر فيها الخط الأندلسي أو القرطبي، نسبة إلى قرطبة وهو مقوس الأشكال بعكس الخط القيرواني ذي الحروف المستطيلة.
كانت في الروض الشرقي م قرطبة مائة وسبعون امرأة لنسخ المصحف بالخط الكوفي، وقد قلت العناية بالخط المغربي في المصاحف التي كتبت في غرناطة وفاس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي ولكن الزخارف المتعددة الألوان بقيت لها بهجتها وجمالها.
ولما ضعفت دولة الأندلس نزح إلى مصر بعض الفنانين المغاربة والأندلسيين فتلقاهم برقوق حيث ازدهر بفنهم مع فن المصريين الأصليين كتابة المصاحف وتذهيبها بالكوفي، أما الثلث في عهدهم فكان دون الإجادة.
العثمانيون .. إبداعات الرقعة والديواني
عندما فتح السلطان سليم مصر أخذ الأتراك الثلث عن المصريين والنسخ عن الأتابكة، وقد حدثت النهضة الخطية بتركيا عندما استدعى من مصر وفارس أعاظم الخطاطين الذين برعوا في تجويد الخطوط العربية والفارسية وعلموا الأتراك فنهم، وتفوقوا على أساتذتهم أحيانا.
يُعتبر العصر العثماني عصر نضوج الخط العربي في العصور المتأخرة، ويكاد يطلق عليه العصر الذهبي للخط العربي وذلك لأسباب كثيرة منها: أن الدولة العثمانية دولة واسعة المساحة جمعت الجنسيات والألسن والألوان البشرية المختلفة تحت مظلة الإسلام، وأن فترة حكمها طالت حتى بلغت قرونًا، وكانت تعتبر التصوير حرامًا، لذلك شجَّعت الخطوط والزخارف والنقوش لسد فراغ تحريم التصوير.
وكان الخلفاء يقربون منهم العلماء والأدباء والمبدعين، ويستقطبونهم إلى عاصمة خلافتهم، ويغدقون عليهم المنح والعطايا المختلفة، بل نجد بعض الخلفاء قد تتلمذ على أيدي الخطاطين وأخذوا عنهم مبادئ الخط العربي، ومن ذلك تتلمذ السلطان مصطفى الثاني والسلطان أحمد الثالث على يد الخطاط الحافظ عثمان، وكان خطاط السلطان الخاص يتقاضى أربع مائة ليرة عثمانية ذهبًا في الشهر، وبلغ العثمانيون من الترف ما جعل ذوي الإبداع يعملون في قصورهم النقوش والزخارف والرسوم بمبالغ عالية. واستطاع الخطاطون في ظل تكريم الدولة لهم، وإغداقها العطايا عليهم، أن يبتكروا خطوطًا جديدة كخط الرقعة والطغراء والديواني والديوني الجلي وغيرها.([9])
ويعتبر خط الرقعة من الخطوط المتأخرة من حيث وضع قواعده فقد وضع أصوله الخطاط التركي الشهير ممتاز بك المستشار في عهد السلطان عبد المجيد خان حوالي سنة 1280 هـ، وقد ابتكره من الخط الديواني وخط سياقت حيث كان خليطًا بينهما قبل ذلك. يُعد خط الرقعة الخط الذي يكتب به الناس في البلاد العربية عدا بلدان المغرب العربي عمومًا، وإن كان بعض العراقيين يكتبون بالثلث والنسخ.
الخط الديواني هو أحد الخطوط التي ابتكرها العثمانيون، ويُقال إن أول من وضع قواعده وحدد موازينه الخطّاط إبراهيم منيف، وقد عُرف هذا الخط بصفة رسمية بعد فتح السلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية عام 857 هـ، وسمِّي بالديواني نسبة إلى دواوين الحكومة التي كانت يكتب فيها.
ويقال ان كلمة الطغراء اصلها تترية وتعني السلطان او الحاكم ولقبه، وهو رسم خاص مثل التوقيع او الختم، يعتبر هذا الخط من ارقى ما توصل اليه الاتراك في فن الجمال الزخرفي للخطوط والتصرف الخطي في تجريد الحروف، اما ما يميز خط الطغراء فيوجد به ثلاث ألفات قائمة ثم تنزل بميلان لليسار لكي تتلاقى مع الكلمات الموجودة اسفلها، ثم يخرج من هذا التكوين خطان ليكونا شكلًا بيضاويًا عند خروجهما ثم يلتقيان في النهاية على شكل خطين متناسقين.
اما قصة نشأة هذا الخط فكانت في عهد السلطان العثماني بايزيد بن مراد الاول حينما زاد التوتر بينه وبين السلطان المغولي تيمورلنك فأرسل له الاخير كتابًا يتوعده ويهدده فيه ووقع تيمورلنك عليه ببصمة كفه الملطخة بالدم، ثم نشبت الحرب وانتصر تيمورلنك فيها فأخذ العثمانيون بصمته وصوروها وقاموا بكتابة الطغراوات بها، ومع مرور الزمن قاموا بتطويرها حتى وصلت لشكلها الاخير الذي كتب به مصطفى راقم عام 1240 هـ
مصحف الحافظ عثمان
يتصدر الحافظ عثمان النخبة المجوّدة للخط العربي، حيث تربّع على قمة نوابغ الخطاطين الأتراك البارعين في كتابة المصحف الشريف، فقد اشتهر هذا الخطاط المبدع الذي ولد في إسطنبول عام (1052 هـ- 1642 م) ونشأ فيها، في كتابة المصاحف التي طبع بعض منها في القرن الرابع عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) ووزع على مختلف البلدان الإسلامية، حفظ القرآن الكريم وهو صبي، فلقب بالحافظ عثمان واشتهر به، وحبب إليه منذ صغره تجويد الخط العربي، وأخذ الأقلام الستة عن أشهر الخطاطين الأتراك في عصره كالأستاذ درويش علي، ثم عن تلميذه صويولجي زاده مصطفى الأيوبي لينال الإجازة في تعليم هذا الفن العريق وهو في الثامنة عشرة من عمره، ثم أخذ دقائق طريقة حمد الله الأماسي عن إسماعيل نَفَس زاده، قبل أن يتوصل عام 1678م إلى ابتداع طريقة جديدة تميزّت بالجمال والانسجام واستقرت عليها الأقلام الستة.([10])
عالمية الخط العربي
الخط العربي، سمة التميز الأولي للفن العربي الإسلامي عن باقي الفنون نجده في الأواني وعلي الأبواب والحيطان والقبب والمنابر، وفي الأسمة والستائر والسجاد وفي الصور وعلى شواهد القبور، ويندر أن نجد تحفة من التحف العربية الإسلامية الرائعة، غير مدموغة بالخط العربي، ونظرًا لمظهر الخط العربي البديع وجماله الفني، وقيمته التشكيلية الفائقة، فقد بهر أنظار العديد من فناني الغرب، الذين استعملوا الخط العربي لغايات زخرفية “كما في الأعمال البيزنطية وفي الرسوم الإيطالية الباكرة، وفي واجهات الكنائس العائدة للقرون الوسطي، كما نقشت حروفه على كافة الصناعات والفنون الأوروبية بأشكالها المختلفة”([11])
لقد استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة، أن يحل مكان خطوط كثيرة، كانت موجودة في عدد من الأمصار، وأن يسيطر عليها، إما بالتغيير، أو بإلغائها تماماً، كما سادت لغة العرب على لغات محلية سابقة لها. فمن إقليم لآخر، كان الشكل الواحد من الخط العربي يأخذ أشكالاً مختلفة، دون أن تنفصل هذه الأشكال الجديدة على الشكل الأساسي الأصل. فمثلاً، نجد الخط الكوفي الأندلسي، يختلف قليلاً عن الخط الكوفي القيرواني، كما أن هذين الخطين يختلفان عن الخط الكوفي نفسه الذي انتشر في دمشق وبغداد والقوقاز.
ولقد ظهر تأثير الخط العربي في أوربا منذ القرن الثامن الميلادي وانتشر في أماكن كثيرة منها، وبخاصة في صقلية وإيطاليا وأسبانيا وغرب فرنسة، ويبدو واضحاً في قطعة من العملة الذهبية باسم الملك “أوقا” (757ـ796م) ملك مرسية. وقد استفاد النحات الفلورنسي أيضاً “فيروكيو” (1453ـ1488م) أستاذ ليوناردو دافنشي من الخط العربي في زخرفة لوحة تبجيل الملوك المحفوظة في فلورنسا، وكذلك في تمثاله “داود” المحفوظ في البارجيلو بفلورنسا.وفي ألمانيا رسم المصور “هانز هولبان” (1479ـ1543م) عديداً من اللوحات التي تظهر فيها سجاجيد مزخرفة بالخط العربي والكوفي.([12])
وقد زخرت المدن العربية والإسلامية بآثار هذا الخط يزين المساجد والحنايا والجدران والمآذن والقباب، والمقابر، والسبل، والمحال التجارية، والأقمشة، والكتب، والقلاع، والسيوف والدروع، والمزهريات والسجاجيد والبسط، والملابس، ومنه كتابات على الزجاج، وأخرى على الحديد والنحاس، بطريقتي الدهان والحفر حتى التطعيم أو التنزيل، فنَزلوا خطوطهم على الخشب بسطور من العاج الأبيض، وعلى الحديد والنحاس بسطور من الفضة والذهب، بل إنه أخذ في زخرف الكتاب بالألوان والأزهار، وأحياناً بالطير والشجر، كما فرش لها الأرضية بالزخارف النباتية الجميلة، وخصها بالتوريق البديع في شدة انسجام، وتآلف الربط، وطواعية تنسيق ودقة، وبذلك أضحى للخطاطين حظوة مرموقة ومنزلة رفيعة عند أولي الشأن، كما تميز به الخط ذاته من مكانة سامية.
وقد استمر الخط عصوراً طويلة يستخدم في كتابة اللوحات الفنية التي تزين البيوت والمساجد وينقش على الجدران. حتى جاء العصر الحديث بما يحمل من نهضة صناعية وتجارية استدعت بالضرورة ألواناً من الدعاية والإعلان، فانفتح بذلك مجال تجاري كبير للخط والرسم في كتابة اللافتات للمصانع والشركات والمحلات التجارية. ووجد الخطاطون فرصة جديدة للتجديد والابتكار وابتداع أشكال جديدة من الخطوط تكون أكثر مطاوعة وأقدر على التعبير والإبهار ولفت النظار.
ويقول الخليفة العباسي المأمون: “لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان”.
المصادر:
[1] https://www.baianat.com/ar/books/arabic-calligraphy-culture/the-arabic-calligraphy-as-a-form-of-art
[2] عمرو اسماعيل، الخط العربي، مصدر سابق، ص: 64
[3] إبراهيم جمعة، دراسة في تطور الكتابات الكوفية على الأحجار في مصر في القرون الخمسة الأولى للهجرة، دار الفكر العربي، ص:19 و20، نقلا عن المصدر السابق.
[4] عمرو إسماعيل، الخط العربي فن تاريخ اعلام، ص: 65
[5] علي عفيفي غازي(د): نشاة وتطور الخط العربي في الإسلام، النسخة الإليكترونية للمجلة العربية، العدد 542،
http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?id=678
[6] https://www.baianat.com/ar/books/arabic-calligraphy-culture/types-of-fonts-and-its-different-shapes
[7] حسن قاسم حبش: الخط العربي الكوفي، بيروت: دار القلم، ص:15
[8] المصدر السابق
[9] أحمد شوحان: رحلة الخط العربي، ص: 37
[10] https://al-sharq.com/article/21/06/2015/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%86%D8%A7%D8%A8%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A
[11] أنور أبي خزام: البعد الصوفي لجمالية الخط العربي، مجلة الفكر العربي، العدد السابع والسبعون، ص 83
[12] محمد الدعسان(د): تطور الخط العربي وعالميته، منشور بشبكة هيباستوديو للخط العربي